فصل: باب: كراء الإبل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: كراء الإبل:

قال الشافعي: "وكراء الإبل جائز للمحامل والزوامل والرحال... إلى آخره".
5170- المحامِل جمع مَحْمِل، وهو كالمرقد، والزوامل جمع الزاملة، ومعناها ما يزمّل ويلف من الثياب والأمتعة على ظهر الدابة ليركبها من يركبها، ويقال: تزمّل فلانٌ بكسائه إذا التفَّ به، ومنه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ المزمل: 1، وقيل: الزاملة على صيغة الفاعل، ومعناه المفعول؛ فإن الزاملة اسمٌ للثياب المزمِّلة، ويجوز أن يقال: الزاملة اسمٌ لشكلٍ في وضع الأمتعة جامعٍ لها، فتلك الصورة زاملةٌ لاثةٌ للأمتعة.
والرحال جمع الرحل، وهو يطلق على الإكاف، وقد يطلق على الزاملة أيضاًًً.
5171- ثم قال المرتَّبون مقصود الباب تفصيلُ القول في كراء الدواب في الوجوه والمقاصد التي تُكترى إليها. ثم لها أربعة مقاصد: أحدها: الركوب.
والثاني: الحمل. والثالث: الاستقاء. والرابع- الحرث. ونحن نذكر كلَّ مقصودٍ من هذه المقاصد، ونوضّح ما يتعلق به، إن شاء الله عز وجل.
5172- فلتقع البداية بالركوب. والاستئجارُ لهذا المقصود، ولغيره ينقسم إلى الإجارة الواردة على العين، وإلى الإجارة الواردة على الذمة، ونحن نذكر تفصيل الإجارة الواردة على عينِ الدابة فنقول: لابد أولاً مع تعيين الدابة من وجوهٍ في الإعلام: منها إعلام المنفعة، وذلك يحصل بوجهين:
أحدهما: المدة، وذلك بأن يقول المكتري: اكتريت منك هذه الدابة لأركبها في بياض هذا النهار، وأتردد عليها في حوائجي. فهذا وجه في إعلام المعقود عليه.
والوجه الثاني- ألا يتعرض للمدة، ولكن يذكر المقصود ويوضحه، بأن يقول: اكتريت هذه الدابة لأركبها إلى الموضع الفلاني، وهذا إعلامٌ تامٌّ، ولا حاجة إلى ذكر الوقت، مع ما ذكرناه.
5173- ومما يجب إعلامه في إجارة العين للركوب صفةُ الراكب، فإن حضر، وعاينه مالك الدابة، كفى ذلك وإن لم يحضر، فلابد من وصفه، فإن ذكر وزنه، كفى. وإن لم يذكر وزنه، وذكر قدّه، وما هو عليه من نحافة أو سمن، على التقريب الممكن، فالأصح أن ذلك كافٍ؛ فنا إذا كنا نكتفي بمعاينة الراكب، فذكر هذه الأوصاف تنزل منزلة المعاينة، وإن كنا لا نحيط بحقيقة الوزن في المعاينة، ولا في الوصف.
ومن أصحابنا من أوجب ذكر الوزن إذا لم يكن الراكب حاضراً حالة العقد-ولا خلاف أن العِيان يكفي في ضبط الراكب- وهذا الوجه ضعيف غيرُ معتد به.
5174- ثم إذا انعقدت الإجارة على عين الدابة، فمن أحكامها أن تلك الدابة لا سبيل إلى بدلها؛ فإن بقيت استمرَّت الإجارة، وإن تلفت في يد المستأجر، انفسخت الإجارة في بقية المدة، كما تقدم تقرير ذلك.
ولو عابت عيباً يؤثر في مقصود الإجارة تخيّر المكتري، فإن رضي بالعيب، استمر العقدُ، وإن فسخ ارتفعت الإجارة.
5175- ومن أحكام تعيّن الدابة أن استئجارها يجب أن يكون بحيث يستعقب العقدُ استحقاقَ منفعتها، فلو أضيف العقدُ إلى مدة في الاستقبال، لم يصح مثل: أن يقول: أجرتك هذه الدابة غرة شعبان، والعقد في رجب. وقد أوضحنا ذلك.
5176- ثم إذا قبض المستأجر الدابةَ، وكان ذكر أنه يركبها، فلو أراد أن يُركبها غيرَه، جاز، والجملة الضابطة في ذلك أن المستحَقَّ في الإجارة منفعةُ الدابة، فهي مخصوصةٌ، وذكرُ عين الراكب لا يعيّنه، فإن التعيين إنما يؤثر في المعقود عليه، والراكب مستوفٍ للمنفعة وليس معقوداً عليه، فإذا أراد أن يُركب غيرَه، جاز.
ولهذا قطع الأئمة بأنه يُكري الدابة إن رام ذلك، ومن ضرورة تجويز ذلك تبدّل الراكب.
ثم إنما يجوز تبديل الراكب إذا كان مثلَ المستأجر المعيّن للركوب، فإن كان أثقلَ منه، لم يجز، وذلك بيّنٌ.
5177- ولو كان المستأجر رفيقاً في ركوبه وتزْجيَة الدابة، فلو أكراها ممن هو في الجثة مثلُه، ولكن كان أعنفَ منه في الإجراء، أَو التَّزْجِية، فهذا لا يؤثر في إفساد الإجارة، والسبب فيه أن ما يصدر من ذلك الراكب من ضربٍ وتعنيف ينقسم، فمنه ما كان لا يُمنع منه المستأجر لو أراده، وهو القدر المعتاد في إجراء الدابة، ومنه ما يزيد على المعتاد الشائع، فيمنع منه الراكب. فإذا ثبت ما ذكرنا، فلو ركب المستأجِر من المستأجِر، وعنّف، واعتدى، وزاد في التعنيف والضرب، على ما يسوغ، فهلكت الدابة بهذا السبب، فلا شك أن الضمان يتوجه عليه.
5178- ثم قال الأئمة: ليس للمالك مطالبةُ المستأجر الأول ليرجع بما يغرَم.
وهذا متفق عليه.
وليس كما لو أكرى الدابة من رجل ضخمٍ تزيد جثتُه في الثقل؛ فإن الدابة إذا هلكت بسبب ثقل الراكب الثاني؛ فالضمان يتوجه عليه، ويتوجه أيضاًًً المطالبةُ على المستأجر الأول من جهة المالك. والفرق أن الدابة إذا تلفت بتعنيفٍ من الثاني، فالأول غيرُ مقصّرٍ في الإجارة والتسليم، وإنما جاء العدوان من الثاني، فلم يتعلق بالأول عدوانٌ، ولا سببُ عدوان، وليس كذلك إذا ركب من هو أثقل منه؛ فإن عيْنَ ذلك عدوان. ولكن إذا تحقق الإتلاف من الثاني، فعليه قرارُ الضمان، والمطالبة تتوجه على الأول؛ لأنه تسبب إلى ما جرى. وهذا واضحٌ.
5179- ومما يتعلق بالركوب في الدابة المعيّنة أنه لو اكترى بعيراً ليحمله مَحْمِلاً ليركبه، فلابد من إعلام المَحْمِل، فإن عاينه، كفى، إجماعاً، ولا يشترط مع العيان معرفةُ الوزن.
وإن لم يكن المَحْمِل حاضراً، فلابد من وصفه؛ فإن وقع الاقتصار على ذكر وزنه، فالذي قطع به المحققون أن ذلك لا يكفي؛ فإن المحامل تختلف بالسعة والضيق، وغيرهما من الصفات، مع التقارب في الوزن، ويختلف الضرر والعناء على الدابة باختلاف هذه الصفات اختلافاًً بتناً.
وذكر بعضُ الأصحاب أن الاقتصار على ذكر الوزن كافٍ، ثم لهيئة المحمل على الوزن المعلوم ضبطٌ يعرفه أهل الصناعة فيتّبع ذلك. وهذا الوجه ضعيفٌ، لا أعتدُّ به.
ولو وصف المَحْمِل بالطول والعرض والسعة، وكل ما يختلف الغرض به، ولم يتعرض للوزن، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن الوزن لابد منه؛ فإنه الأصل.
والثاني: أن الصفات كافية كما في العيان؛ إذ لا خلاف أنه لا يجب الوزن مع العيان.
5180- والأصح أن الراكب إذا كان غائباً، كفى في إعلامه وصفُه، ولا حاجة إلى ذكر وزنه، وفيه أيضاًً خلافٌ قدّمته، والأصح في المحمل وجوب ذكر الوزن إذا كان غائباً، والأصح أن ذلك لا يجب في الراكب الغائب، والمتبع في النفي والإثبات والفرق والجمع العرفُ، وهو هيّنٌ على أهل المعاملة.
5181- ولو جرى ذكر المَحْمِل في موضعٍ محاملُه متدانية كمحامل بغداد، وشقادف الحجاز، فقد قال أبو إسحاق المروزي: إطلاق المحمل في مثل هذه البقعة كافٍ، وخالفه معظمُ الأصحاب؛ فإن المحامل لا تتوافق في شيء من البقاع، ولابد وأن تختلف اختلافاًً معتبراً.
5182- ومما يتعلق بالركوب أن المستأجر إذا ذكر أنه يركب الدابة بالإكاف، فلو أبدله بالسرج، جاز، فإن السرج أهونُ، وأخفُّ على الدابة من الإكاف.
ولم يذكر أحد من الأصحاب اشتراط ذكر الوزن في السرج والإكاف، وإنما تعرضوا للوزن في المحامل الغائبة، واكتَفَوْا بالعادة في الإكاف والسرج؛ لأن ذلك مما لا يختلف اختلافاًً به مبالاة.
5183- ومما ذكره الأئمة في ذلك أن قالوا: من اكترى دابة وقبضها، ثم أفلس المكري، فلا أثر لفلسه في الإجارة، فإن منعنا بيع المكرَى يصْبرُ الغرماء حتى تنقضي الإجارة، ثم تباع الدابة، وتصرف إلى الغرماء. وإن جوزنا بيْعَ المكرَى، فأراد الغرماء البيعَ، جاز لهم ذلك، وإن كانت القيمة تنتقص والرغبات تقلّ، فإنا لا نكلفهم أن يؤخروا حقوقهم رعايةً لغبطة المحجور عليه. وقد ذكرنا لذلك نظائر في كتاب التفليس.
ثم إذا بيعت الدابة، فهي تقِرّ في يد المستأجر إلى أن يستوفي تمام حقه، وتنقضي الإجارة، وذلك واضحٌ لا إشكال فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المقصود من الإجارة الركوب، وقد وردت على عين الدابة.
5184- فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، فيجري في ذلك لفظان:
أحدهما: أن يقول: ألزمت ذمتك إركابي إلى الموضع الفلاني، فهذا لفظٌ.
ولا بد فيه من إعلام المركوب، فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاًً عظيماً. وقد ذكرنا في السَّلَم أنه يجب فيه ذكر الأوصاف المقصودة، فليذكر الجنسَ والنوعَ، وليبيِّن أن المركوب حمار، أو بغل، أو فرس، أو بعير، وذكر الأئمة أنه يذكر أنه ذكر أو أنثى؛ فإن السير يختلف بالذكورة والأنوثة، والذي يدل عليه ظاهرُ كلام الأئمة أن ذلك شرطٌ، وقد رأيت في كلام بعضهم ما يدل على أن ذلك احتياطٌ، وليس بشرط، والمسألة محتملة.
ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب لوصف سير الدابة، وأنها تخطو أو تُهَمْلج، والذي لا يستراب فيه وجوبُ ذكر ذلك؛ فإن البهائم تختلف في هذا، وما ذكرناه في صفة السير يجري لها مجرى الأوصاف، ومعظم الغرض يتعلق بذلك، وإذا ذكروا الذكورة والأنوثة، فما ذكرتُه أولى بالاشتراط.
فهذا بيان ما يتعلق من الإعلام بلفظٍ يتفق استعماله في إلزام المقصود ذمّةَ المكري.
5185- واللفظ الثاني أن يقول: ألزمت ذمتك تسليمَ مركوبٍ إليَّ أركبه إلى موضع كذا، فهذا يُداني اللفظَ الأول، ولكنهما قد يختلفان في التفريع، كما سيأتي شرحُ ذلك، إن شاء الله تعالى- ثم القول في وصف الدابة كما ذكرناه.
5186- ولا يشترط أن يذكر صحةَ الدابة وقوّتَها، واستقلالَها؛ فإن مطلق العقد يقتضي ذلك، وما يقتضيه مطلقُ العقد، فلا حاجة إلى التصريح بذكره.
5187- ثم إن جرى العقد بلفظ السَّلَم، فيجب تسليمُ الأجرة في مجلسِ العقد، وإن لم يجر لفظُ السلم، وإنما قال: ألزمت ذِمتك، ففص وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد خلافٌ بين الأصحاب قدّمنا ذكره، وهو جار في البيع الوارد على مبيع موصوفٍ في الذمة من غير ذكر لفظ السلم، والسلف.
5188- ثم إذا وردت الإجارة على الذمة، فيتصور فيها الحلول والتأجيل: فالحالّ هو الذي يُقيَّد بالحلول، أو يطلق؛ فإنَّ المطلق عندنا كالمقيّد بالحلول والتعجيل.
والمؤجل مثل: أن يقول: ألزمت ذمتك أن تُركبني غُرّةَ المحرم إلى موضع كذا، فهذا جائز؛ فإنّ الديون تقبل الآجال.
فأما إذا ورد العقدُ على دابة معينة، ففرض الأجل محال؛ فإن الأعيان لا تقبل الآجال، ولو أضيفت إجارة الدابة المعيّنة إلى وقتٍ مستقبل، فهو باطل، كما تقرر من المذهب.
ثم لابد من إعلام الراكب في عقد الذمة، وقد ذكرنا طريق إعلامه بالعيان، أو الوصف، فإن قيل: أليس التعيين ينافي وضعَ السَّلم، فلم تجوّزون تعيين الراكب؟ قلنا: إنما يمتنع تعيين المعقود عليه، مثلُ أن يعيّن المسلم في الرطب نخلاتٍ من بستان، هذا ينافي مقصودَ السلم، والراكب ليس معقوداً عليه، والذي يوضح الحقَّ في ذلك أن الراكب وإن عُيِّن في الإجارة في الدابة المعيّنة، فإنه لا يتعين؛ إذ له أن يُركب غيرَه، فلا أثر إذاً لتعيين الراكب. والأمر على ما وصفناه.
5189- ثم من أحكام الإجارة الواردة على الذمة أن المكري لو سلّم دابةً على الصفة المطلوبة، ثم تلفت تلك الدابة في يد المستأجِر، فلا تنفسخ الإجارة، بل يجب على المكري أن يأتي بدابةٍ أخرى، على صفتها، وتحقيق ذلك أن الدابة إذا كانت معيَّنةً في الإجارة، فسلمها المستأجرَ، وتلفت في يده، فالإجارة تنفسخ، والتلف يقع من ضمان المكري. هذا حكم الإجارة الواردة على العين.
فأما إذا كانت واردةً على الذمة، ففيها متسع، فلا وجه للحكم بالانفساخ إذا كان الوفاء بالعهد ممكناً، وكذلك لو عابت تلك الدابة في يد المكتري، فإنه يردّها ولا تنفسخ الإجارة، بل يستبدل عنها دابةً أخرى، غيرَ معيبة، وإذا عابت الدابة المعيّنة في الإجارة، فردُّها يتضمن انفساخَ الإجارة لا محالة.
ومما يتعيّن الاعتناء بفهمه في هذا المقام أن الدابة المسلّمة في إجارة الذمة يتعلق بها حق المستأجر على التحقيق، وإن كان مستند الإجارة الذمةَ، وبيان ذلك: أن المستأجر لو أراد أن يكري الدابةَ التي قبضها عن إجارة الذمة، فله ذلك، أطبق عليه أئمة المذهب.
ومما ذكروه في تحقيق ذلك أن المكري لو أفلس قبل تسليم الدابة، فقد يُضارب بحقه المستأجرُ، كما سنصفه الآن، إن شاء الله تعالى- وإذا سُلِّم الدابة، ثم جرى الإفلاس، فلا مضاربة، والمستأجر أولى بتلك الدابة حتى يستوفي حقَّه منها؛ فإن اختصاصه بها-وقد تسلمها- يزيد على اختصاص المرتهن بالرهن.
5190- ومما ذكره الأئمة في ذلك: أن المستأجر لو أراد الاعتياض عن حقّه قبل تسلّم الدابة، لم يكن له ذلك؛ فإنه اعتياضٌ عن المسلم فيه، وهو ممنوعٌ إجماعاً، ولو تسلم دابة على الصفة المطلوبة، ثم أراد المكتري أن يعتاض عن حقه في تلك الدابة، فله ذلك، وفي تصحيح هذا الاعتياض سقوطُ حقِّ المستأجر، وعللوا بأن حقَّه إذا تعين في الدابّة؛ فإن الاعتياض يقع عن حقٍّ في عين، فإذا كنا نجوز للمستأجر في إجارة الذمة أن يُكري الدابةَ التي قبضها، فقد أثبتنا له حقاً في عينها محققاً، فالاعتياض من المسلم إليه يَرِدُ على حقه المتعيّن في الدابة، ثم يترتب على تصحيح الاعتياض انقطاع حقّه من المسلم.
فإن قيل: لو تعين حقه كما ذكرتموه في الدابة، فلم قلتم إذا تلفت تلك الدابة، وجب على المسلم إليه الإبدال؟ قلنا: لأن القبض لا يتحقق في المنافع من الوجوه كلِّها قبل انقضاء المدة، فلذلك قلنا: لو تلفت الدابة المعيّنة في الإجارة في يد المستأجر، تضمن ذلك انفساخ الإجارة.
5191- فلينتبه الناظر إلى هذه الأحكام؛ فإنها مستقيمةٌ على قاعدة الإجارة، وموجب الذمة، وقد يظن المبتدىء فيها تناقضاً، وليس الأمر كذلك. وسبب اختلافها ظاهراً صدورُها عن حكم الذّمة، وثبوتُ حق التعيينِ بالقبض، مع العلم بأن القبض لا يتم في المنافع، ما لم تنقض المدّة.
5192- ومن تمام البيان في ذلك أن المكري في الذمة لو سلم دابَّة، ثم استردّها وأتى بأخرى، وقد يعتاد المكرون ذلك، فنقول: إن لم يرض المكتري بهذا، فلا يسوغ استرداد الدابة منه، لما قرره الأئمة من ثبوت حق اختصاصه بالدابة، حتى أثبتوا له أن يُكري تلك الدابة، وهذا ينافي جواز انفراد المكري بالاستبدال.
5193- وكان شيخي أبو محمد يقول: إن كان لفظُ الإجارة معتمِداً ذكر الدابة، مثل أن يقول: ألزمتك دابة صفتُها كذا، أركبها، فإذا سلمت إليه الدابة، فلا يجوز الاسترداد أصلاً. وإن قال: ألزمت ذمتك إركابي، فالمعتمد الإركاب، فيجوز الاستبدال، والحالة هذه.
والأئمة لم يفصلوا بين اللفظين؛ فإن المعتمدَ-كيف جرى اللفظُ- الدابةُ وصفتُها، والذي ذكره شيخي إنما يتجه، ويحسن، إذا كان الاكتراء لنقل حُمولة؛ فإن الدابة لا أثر لذكرها، فإذا قال: ألزمت ذمتك نقلَ متاعي هذا إلى موضع كذا، فلا ينبغي أن يكون لتسليم الدابة في هذه الصورة أثرٌ ووضعٌ أصلاً، وسنوضح أنه لو أراد نقلَ ذلك المتاع بكتفه، جاز، فلا أثر إذاً للدابة في هذا الموضع إذا لم يقع التعرض لها، فإذا جاء المكري المتلزمُ بالدابة وحمّلها الحُمولة المذكورة، فلا أثر للإتيان بها وتسليمها؛ فإن مقصودَ العقد نقلُ المتاع على أيِّ وجهٍ فُرض.
أما إذا كان المقصود الركوب، فلابد من التعرض للدابة، بل لابد من ذكر جنس المركوب ووصفه؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيّناً، ولا أثر لذكر الدابة في نقل الحُمولات. هذا منتهى القول في ذلك.
5194- ومن بقية الكلام في هذا القسم أن المكري الملتزم في الذمة إذا أفلس قبل تسليم الدابة الموصوفة، وإقباضها، فإن كانت الأجرة التي سلمها إليه قائمةً بعينها، فالمكتري بالخيار بين أن يفسخ العقد، ويسترد عينَ ماله، وبين أن يُمضي العقدَ، ويضارب الغرماء.
وإن لم تكن الأجرة باقيةً، فلا وجه له إلا المضاربة، والسبيل فيها أن يضارب بكراء مثل إركابه على الدابة الموصوفة، إلى الموضع المذكور، وما خصه بالمضاربة لا يسلّم إليه؛ إذ لو سُلّم إليه، لكان اعتياضاً عن المسلَم فيه، ولكن يصرف ما يخصه إلى دابة يركبها، فإن أمكن شراء دابة للمفلس، حتى يركبَها المكتري إلى المكان المسمى، ثم الدابة تباع، وتصرف إلى الغرماء، فهذا بالغٌ حسن، وفيه توفية حق المكتري من غير تنقيصٍ من حقوق الغرماء. وإن لم يتمكن من ذلك، اكترينا بما يخصه دابةً على الصفة التي ذكرها، فإن لم يف ذلك المقدارُ بتمام الغرض، حصّلنا بعضَ المقصود، وبقي الباقي ديْناً له في ذمة المفلس، وقد ذكرنا المضاربة في السلم في كتاب التفليس. وهذا عين ذاك.
وقد نجز القول في اكتراء الدابة للركوب على صفة التعيين، وعلى إلزام الذمّة.
5195- فأما الاكتراء للحمل، فينقسم إلى إجارةٍ ترد على عين الدابة وإلى إجارةٍ تعتمد إلزام ذمة المكري، فأما ما يتعلق بالعين، فهو استئجار دابة معيّنة لتحمل متاعاً، وفي اشتراط رؤيتها قولان، كالقولين في شراء العين الغائبة، ثم لابد من الإعلام، وله مسلكان، كما تقدم ذكره:
أحدهما: الإعلام بالزمان، وذلك مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة بياضَ هذا النهار، لأنقل عليها أمتعةً لي من الحانوت إلى الدار؛ فالإجارة تصح، فإنّ ذكْر المدة يُعلم المقصودَ، ويبيّنه، ولكن لابد من ذكر المقدار الذي تحمله الدابة كلَّ كرّة، فإنها لو حملت ما لا تُطيق في كل كرة، لتفسخت، وهلكت.
فهذا وجهٌ في الإعلام.
والوجه الثاني- أن يتعرض لنفس المقصود من غير ذكر زمان؛ مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحملها كذا وكذا، إلى موضع كذا، فهذا إعلامٌ كافٍ، وإن لم يقع لذكر الزمان تعرّضٌ.
5196- ثم التعويل في هذا السبيل على ذكر المقدار المحمول، ولإعلامه مسالكُ ذكرها الأصحاب، ونحن نذكرها على وجوهها، ونُتْبع كلَّ وجهٍ بتعليله، ثم إذا نجزت فصول اكتراء الدواب، وما ذكره الأصحاب فيها، جمعنا بعد انقضائها كلاماً ضابطاً، يحوي مآخذ الكلام، إن شاء الله تعالى.
فمن وجوه الإعلام في الحُمولة ذكرُ الوزن، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها مائة مَنٍّ، إلى الموضع الذي يُسمّيه، كفى ذلك في الإعلام، وأجمع الأصحاب على أنه لا يجب ذكر جنس المحمول، وإن كان قد يختلف الغرض به، كما سيأتي شرح الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الأئمة: إذا ذكر الوزن، فله أن يحمّلها مائةَ منٍّ من أي جنسٍ شاء.
هذا وجهٌ في الإعلام.
5197- ومما ذكره الأصحاب في الإعلام معاينة المحمول، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها هذا، جاز. اتفق عليه الأصحاب، وأطبقت عليه الطرق وإن كان العيان لا يبيّن مقدار الوزن، وإنما يقرّب بعضُ الخواص، القولَ في وزن ما يعيّنه خرصاً وتخميناً، والعقد يصح تعويلاً على العِيان فيما يُخرَص، وفيما لا يُخرَص.
5198- ومما ذكره الأئمة أن المتاع لو كان في ظرف لم يعايِن جنسَه، فشاله المُكري باليد، كفى ذلك في الإعلام، إذ الشَّيْلُ في الوزن أقرب إلى العِيان، فإذا كفى العيان، كفى الشَّيْلُ، والتقريب المستفاد منه. أما إذا لم يعايَن المتاع في الظَّرْف، ولم يُشَلْ، فلا يصح العقد؛ فإن المحمول مجهولٌ، لم يتطرّق إليه وجهٌ من الإعلام.
ويجوز أن يكون المغطّى بظرفه شيئاًً خفيفَ الجنس، ويجوز أن يكون حديداً، أو تبراً.
هذا بيان إعلام المحمول فيما ذكره الأصحاب.
5199- ثم قالوا: إن قال: استأجرت هذه الدابة لأحملها مائة منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، بل كل ما يشابهه في الرزانة والاكتناز، فهو بمثابته، فإذا قال: أحملها مائة منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، فله أن يحملها النحاس والرصاص والتبر؛ فإن هذه الأجناس متقاربة، ولو أراد أن يحملها مائة منّ من التبن لم يكن له ذلك؛ وكذلك لو عين التبن، فقال: أحمّلها مائة منّ من التبن، فله أن يُحمّلها مائة من من القطن؛ فإنه في معنى التبن، وليس له أن يحمّلها مائة منّ من الحديد.
والسبب فيه أن كلّ واحدٍ من الحديد والتبن فيه نوع من الضرر لا يمكن دفعه، أما الحديد، فإنه باكتنازه، وثقله يَلْقَى موضعاً من الدابة، فيهدّ ذلك الموضع، ويدقه، وقد يُقرّحه.
وفي حمل التبن ضرر آخر؛ فإنه يغمّ الدابة ويعمّها ويحوي جملتَها، فإذا وقع تعيين في أحد هذين الجنسين، لم يكن للمكتري أن يبدله بالجنس الآخر.
ولو قال أُحمّل الدابة مائةَ مَنّ من الحنطة، فله أن يحمّلها مائةً منّ من الشعير، وكذلك عكسه؛ لأنه لا يتفاوت الأمر، وهذا لائح، لا إشكال فيه.
وإنما نذكر الآن المسائل مرسلةً، وسيأتي ضابطها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
5200- ومما ذكره الأئمة في ذلك أنه لو قال المستأجر: أحمّلها مائة مَنّ، فالظرف محسوبٌ في المائة، ولو قال: أحمّلها مائة مَنٍّ مِن الحنطة، فالظرف زائد على المائة المنّ؛ فإن الحنطة التي ذكر وزنها لا يتأتى حملُها إلا في ظرف.
ثم لابد وأن يكون الظرف معلوماً، إما بالمعاينة، وإما بالوصف، ثم من ضرورة الوصف التعرض لوزنه، وإن جرت الإجارة في موضعٍ لا يتفاوت الظروف فيه، كالغرائر الحبليّة التي تُنسج على منوالٍ واحد، فالعرف المقترن بالعقد كافٍ في البيان، هذا ظاهر المذهب.
ومن أئمتنا من قال: إذا قال: أحمّلها مائةَ منّ، فالظرف زائد على المائةِ أيضاًً؛
فإن الغالب أن التعرض يقع للمحمول في الظَّرف، وإن لم يقع التنصيص على جنسه.
فقوله: أحمّلها مائة منّ، كقوله: أحملها مائة مَنّ من الحنطة. وهذا محتمل.
وظاهر المذهب ما قدّمناه.
ثم سيأتي في الظروف وأنها على المكري أو على المكتري فصلٌ منفردٌ، إن شاء الله عز وجل.
5201- وما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على عين الدابة. فأما إذا أورد الاكتراء على الذمة بحمل الحُمولة، فلا يجب فيها وصف الدابة والتعرض لها؛ ويكفي أن يقول للمستأجر: ألزمت ذمتك نقل مائة منٍّ من الحنطة إلى موضع كذا، وإنما لم نوجب التعرضَ للدابة؛ لأن المقصود لا يتفاوت في نقل الحُمولة بتفاوت الدواب، وليس كما إذا كان المقصود الركوب؛ فإن الغرض الأظهر يتعلّق بصفة المركوب، فلو ذكر المكتري دابةً ووصفها، ولم يعيّنها، والمقصود نقل الحُمولة، فلا بأس أيضاًً، وقد يكون له في وصف الدابة غرضٌ.
5202- فخرج مما ذكرناه أن الكراء الواقع في الذمة لنقل الحُمولة يفرض على وجهين:
أحدهما: الاقتصار على إلزام الذمة من غير ذكر مركوب.
والثاني: التعرضُ لمركوبٍ، ووصفُه، وكلا الوجهين جائزان.
وإن كان المقصود الركوب، فلابد من التعرض لمركوب كما ذكرناه.
5203- قال القاضي: إذا كان المحمول شيئاًً يُخاف انكساره، وكان مما يتأثر بالحركة العنيفة، فلابد من التعرض للدابة، كالزجاج وما في معناه، فلا يصح فيما هذا سبيله إطلاق الإلزام في الذمة، حتى يذكر الدابة، وهذا الذي ذكر حسنٌ، وهو مفروض فيه إذا أشار إلى المحمول، وهو زجاج، أو ما في معناه، أو ذكره.
فأما إذا جعل عماد العقد الوزنَ، ونوى حملَ الزجاج، وأضمره، وما ذكره، وما أظهره، فلا يجب التعرّض للدابة، والحالة هذه.
5204- فأما الاكتراء للاستقاء، فإنه ينقسم أيضاًًً إلى ما يرد على عين الدابة وإلى ما يرد على الذمة.
فأما الإجارة الواردة على عين الدابة، فهي أن يقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي بها، وهذا يستدعي الإعلامَ، وله وجهان:
أحدهما: أن يتعرض للزمان، فيقول: أستقي بها في هذا اليوم، فهذا ضبطٌ، ولابد معه من ذكر الدار التي يقع بها الاستقاء، والبئر التي يقع منها الاستقاء، وهذا يناظر قولنا في نقل الحُمولة: إنه إذا ذكر زماناً ينقل فيه حُمولةً من الخان إلى المنزل، فلابد من ذكر مقدار ما تحمل الدابة كل مرة، كذلك لابد هاهنا من ذكر الدلو، والبئر، ولا يخفى اختلافُ الغرض فيما ذكرناه.
هذا وجهٌ في الإعلام.
والوجه الثاني- في الإعلام أن لا يتعرض للمدة، ويُبيّن العملَ، فيقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي من هذه البئر كذا وكذا دلواً إذا أشار إلى دَلو وعيّنه، ولو وصفه، ووصف البئر، وعمقها، كان الوصف كالتعيين، بل هو أبلغ في إفادة الإعلام من التعيين.
5205- وأما الكراء الواقع على الذمة في هذا القسم، فإنه ينقسم انقسام الاكتراء الواقع على الذمة في نقل الحُمولة، فيجوز إيراده على الذمة المطلقة، من غير تعرُّضٍ للدابة، ولابد من إعلام البئر والدَّلْو، إن كان التعويل على عدد الدِّلاء. وإن أراد المكتري التعرضَ لدابة يصفها، يقع بها الاستقاء، فله ذلك، كما قدمناه في نقل الحمولة.
5206- فأما الاستئجار للحرث، فينقسم إلى العين، والذمة، فأما الإجارة الواردة على العين، ففيها الإعلامان المذكوران قبلُ في المسائل:
أحدهما: يشتمل على ذكر الزمان، فيقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحرث بها اليومَ، ولابد من وصف الأرض، أو الإشارة إليها، فإن أشار إليها، كفت الإشارة، والتعيينُ إذا كان يُطلع بالإشارة على صفة الأرض، فقد تكون الأرض مُتستِّرة بترابٍ حُرّ ووراءه الحجرُ والرمل.
وإن اعتمد الوصفَ، ولم يعيّن الأرضَ، قال: إنها خصبة، أو سهلية، أو جبلية، أو صلبة، أو خوارة، جاز.
والغرض يختلف بهذا اختلافاًً ظاهراً. وإن لم يُرد أن يذكر الزمان، فعيّن الدابة، وأعلم العمل بالإشارة إلى الأرض، أو بذكر أرضٍ موصوفةٍ، فذلك جائز، كما تقدم.
5207- والاكتراء على الذمة في الحراثة ينقسم، كما تقدم في الاستقاء، ونقل الحُمولة؛ فلا يمتنع إلزام الحرث في الأرض المعيّنة، أو الموصوفة في الذمة. وإذا كان المكتري لا يُجري ذكرَ البهيمة، ذَكَرَ مساحةَ الأرض، والمنتهى الذي يبغيه في التكريب، والتقليب، والحرث، فلابد من وصف الأرض كما تقدم.
وإن أراد التعرضَ للدابة التي يقع الحرث بها، فيجب الاعتناء بوصف الدابة، وذكر جنسها؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيناً.
5208-فهذه جهات الأغراض في اكتراء الدواب وبيان الإعلام في المطلوب من كل فن، وإيضاح انقسام الإجارة إلى ما يرد على العين، أو على الذمة، وقد ضمّنَّا الكلامَ انقسامَ الإعلام، وانقسامَ كراء الذمة.
ونحن نرسم بعد ذلك فصولاً متصلةً بالأصول التي مهدناها، ثم نذكر بعد نجازها الضابط الموعود.